الاثنين، 27 أغسطس 2007

... و«المداومة» لا تعني بالضرورة إنتاجية

حيفا - وليد ياسين الحياة - 27/08/07//
تحت أشجار الزيتون المتبقية من قرية الساخنة المهجرة، قرب بيسان، وعلى ضفاف القناة التي تحولت إلى منتجع سياحي يجذب آلاف المصطافين صيفاً، جلست عائلة أبو محمود، ومن حولها عشرات العائلات العربية واليهودية التي جاءت للاستجمام، قبل أقل من أسبوعين على انتهاء العطلة الصيفية. على وجوه الموجودين هنا تلمس مشاعر الفرحة، لكن حين تسألهم رأيهم في العودة إلى أعمالهم ومدارسهم، تسمع أصوات التذمر تنبعث من كل صوب، من الطفل ابن السادسة، الذي سيبدأ مرحلة جديدة من عمره، مع انطلاق السنة الدراسية في مطلع أيلول (سبتمبر)، وحتى الأب، الموظف في مصنع للفولاذ والذي سيرجع هو الآخر إلى عمله الشاق وما يرافقه من استيقاظ مبكر والتزام بساعات العمل والمواعيد المحددة. أبو محمود في السابعة والأربعين من عمره، أنجب ستة أولاد، أكبرهم في الثانية والعشرين ويدرس في الجامعة، وأصغرهم في السادسة. يعمل في المصنع منذ 20 سنة، لكنه لا يشعر بأي انتماء إلى مكان عمله. يقول: «استيقظ في الرابعة صباحاً كي أتمكن من الوصول إلى عملي في السادسة، وأتحمل الشقاء طوال ساعات النهار فقط من أجل لقمة الأولاد وتعليمهم، لكنني لا اشعر بأي انتماء إلى هذا المكان، لأنني أكد وأشقى كي تزيد أرباح أصحاب المصنع، ولذلك لا يهمني كيف امضي النهار، سواء كان عملي منتجاً أو لا».
ولا يخفي أبو محمود انه يماطل في تنفيذ عمل ما، أحياناً، نتيجة هذا الشعور، على رغم إدراكه لاحتمال فصله من العمل إذا ما تأخر يوماً عن عمله أو غادر قبل انتهاء دوامه: «لا تهمني قيمة الإنتاج اليومي للمصنع، فكل ما ننتجه يدر أرباحاً صافية عليهم بينما يدفعون لنا الفتات».
بعد أسبوع تنتهي إجازة أبو محمود وسيرجع إلى روتين حياته اليومي. الاستيقاظ المبكر، الوقوف وراء ماكينة الإنتاج والنظر بين الحين والآخر إلى ساعة يده، بانتظار أن يحين موعد انتهاء الدوام. وبعد أسبوعين من الإجازة التي استغل غالبيتها في النوم والاسترخاء، يشعر أبو محمود الآن وكأنه يحمل جبلاً على كتفيه. «لا اعرف بعد هذه الاستراحة كيف سأعود إلى روتين العمل اليومي»، يقول وهو يطلق زفرة، يتبعها بحمد الله، ثم يلقي بجسده على الأرض ويتمنى لو تطول العطلة شهراً آخر.
على مقربة من مجلس عائلة أبو محمود اجتمع عدد من طلاب جامعة حيفا الذين وصلوا هم أيضاً للاستجمام، بعد انتهاء الامتحانات. هذه السنة لم يشعر هؤلاء بالعطلة الصيفية، فبسبب الإضراب في الجامعات عشية انتهاء الفصل الدراسي الأخير، اضطروا لإمضاء جل العطلة الصيفية في الدراسة والامتحانات.
ماري حداد أنهت السنة الجامعية الأولى وانضمت إلى رفاقها في رحلتهم. ويستفزها السؤال عن اقتراب العودة إلى الدوام، فتهب واقفة وتقول بلهجة عتاب: «يا أخي اتركنا نستمتع ولو في هذا اليوم، لماذا تذكرنا بالدوام والالتزام وتعكر صفو هذا الجو؟». ويرد عليها احمد، زميلها على مقعد الدراسة: «بالعكس، صحيح أننا لم نشعر بالعطلة الصيفية، لكنني اعتقد بأن الدوام الجامعي والالتزام بالمواعيد مسألة في غاية الأهمية». وراح احمد يلقي على رفاقه «محاضرة فلسفية»، على حد تعبير العديد من زملائه، حول الدوام والانضباط ومساهمته في رفع قوة الإنتاج.
ويرى احمد ان «الإجازة مطلوبة للاستراحة، لكنها يجب ألا تطول لأنها تفقد الإنسان الحيوية والنشاط وتجعله يتراخى ويفقد الرغبة بالعودة إلى مزاولة عمله أو دراسته، وبالتالي تقل قوة الإنتاج وينهار الاقتصاد والمجتمع». غير بعيد من احمد و «فلسفته الإنتاجية» شابان يجلسان حول طاولة الطعام على ضفاف البحيرة. كان الكسل باد عليهما، بكل المعايير. لم يخرجا في إجازة صيفية، لكنهما قررا الخروج في عطلة ليوم واحد للاستجمام. احدهما رائد، في العشرين من عمره يملك كشكاً لبيع الطعام السريع، والآخر محمود، يعمل أجيراً في البناء. رائد لا يولي الانضباط والالتزام بالمواعيد أي اهتمام: «أنا اعمل مستقلاً، أنام متى أشاء واعمل متى أشاء». أما محمود فيعتبر الأمر مسألة جدية: «صحيح أنني اعمل أجيراً لكنني التزم بمواعيدي وبدوامي، لأنني أريد بناء مستقبلي، وإذا لم اعمل اليوم وأنا بكامل قواي، فكيف سأعيش غداً؟».
مع ذلك يتذمر محمود من ساعات العمل الطويلة وما يصيبه من إرهاق: «أحياناً نعمل عشر ساعات متواصلة، وأحياناً أكثر، صحيح أننا نتقاضى مقابل الساعات الإضافية أجراً مضاعفاً، لكن الجسم لم يعد يحتمل، والحقيقة أنا احسد رائد على حريته».
الخبير الاقتصادي اشرف حمدان، يقول عن الالتزام بالمواعيد ومدى ارتباطه بمفهوم الإنتاجية: «لا شك ان هناك علاقة متينة بين الانضباط والالتزام بساعات الدوام والقوة الإنتاجية للإنسان. سواء كان الإنسان يعمل لنفسه أو للغير، فان عليه الالتزام بجدول عمله وبساعات دوامه، وتقديم المطلوب منه، لأنه في النهاية يتقاضى أجراً، كان مادياً أو غير ذلك، وبرأيي فان الوفاء بالمواعيد والالتزام بالدوام هو من الآداب المهنية التي تساهم في إحداث التقارب والاطمئنان بين العامل ومشغله أو بين الطالب ومعلمه، وبلا شك فإنها تساهم في رفع قوة الإنتاج، ولا اعتقد بأن الإجازة يجب ان تؤدي إلى الكسل والتراخي بل هي فرصة ليستعيد فيها الإنسان قوته وحيويته ويعود إلى مزاولة عمله بنشاط اكبر».

ليست هناك تعليقات: