الخميس، 17 مايو 2007

رواده فلسطينيون ويهود يساريون يبحثون عن أجواء مغايرة ... في «فتوش» لقاء ثقافات بنكهة المحمّر والقهوة الحيفاوية

حيفا - وليد ياسين الحياة - 17/05/07//
... على امتداد الشارع الرئيسي في حي «الألمانية» في مدينة حيفا، تنتشر مقاه ومطاعم، افتُتح معظمها قبل نحو 10 سنوات، بقرار بلدي لاجتذاب السيّاح. والحي فقير يقع تحت المركز الدولي للبهائيين. ولا تختلف أماكن اللقاء والاجتماع تلك عن المطاعم والمقاهي في العالم، فروادها يقصدونها لتناول طعام أو شراب وقضاء وقت. لكنّ الملتقى القائم في المبنى رقم 38، له «نكهة» مميزة. اسمه «فتوش»، يعايش روّاده ظاهرة ثقافية – فنية منوّعة، جعلت منه محطة لمواطنين فلسطينيين ويهود يساريين، يبحثون عن مكان يوفر لهم أجواء مختلفة.
و «فتوش» أساساً سَلَطَة شهية، خضارها كثيرة، مع خبز مقلي، وزيت وحامض وسمّاق. ولعلّ هذه الخلطة الغنيّة أوحت للشاب وديع شحبرات بأن يقيم مطعماً «استثنائياً» في تلك المنطقة، يشعر رواده بأنهم يعيشون داخل لوحة فنية ثقافية وغذائية، تتغير باستمرار. عندما تلج حديقة المطعم، تستقبلك قطع فنية كثيرة، «تخلط» الثقافة الفلسطينية بثقافات آسيوية وأوروبية متنوعة. وإذا دخلت من البوابة الرئيسية للمبنى، تطالعك مكتبة تحمل رفوفها مؤلفات أدبية وفكرية. ومن بوابة داخلية تعبر إلى معرض للفن التشكيلي، وُضع بتصرّف الفنانين والمصورين من جيل الشباب، ومنهم من انطلق من هناك. والديوان شهد على انطلاقة مغنين وشعراء منهم، وهو يعتبر ملتقى للأدباء والفنانين والصحافيين... والعشاق أيضاً.
«حين تختلط هذه المكوّنات كلها، تشعر وكأنك تعيش داخل لوحة رومانسية تشكّلها أجواء ثقافية، وتلوّنها أفكار مبتكرة، طالما تعطش لها الفلسطينيون في حيفا»، يقول الفنان أسامة مصري، وهو من الأصدقاء المقربين لـ «فتوش»، ومستشاره الفني.
حول طاولة في الحديقة، جلس وديع وأسامة ومعهما الفنان سعيد سلامة، والشاعرة الشابة أسماء عزايزة، يتداولون في فكرة جديدة تتمحور حول تكريس لقاء شهري للفنانين والمثقفين، يُقدّم خلاله الطعام والشراب لهم بنصف الثمن. وُلدت هذه الفكرة من عجز المعنيين وأصحاب الأقلام الشباب عن ارتياد المطاعم بسبب غلاء الأسعار، يقول أسامة. ويتابع وديع: «فكرتُ منذ البداية في إقامة مقهى ثقافي مغاير للمقاهي العربية المعهودة، لعلّ هذا اللقاء يشجع الناس على الحضور والاستمتاع بأجواء مختلفة ومنوّعة».
وفي «فتوش»، يضيف وديع، «نحاول تعزيز الشعور الوطني من خلال تمرير حدث معين في أجواء فنية مميزة. وبالإضافة إلى المعارض والندوات واللقاءات، نكرس أمسيات للمناسبات الوطنية. فعلى سبيل المثال، في يوم احتفال اليهود باستقلال إسرائيل، نحيي هنا ذكرى النكبة، ونبث أغاني مارسيل خليفة وفيروز، في أجواء تعكس مشاعرنا الحزينة».
وعن رد فعل اليهود، يتحدّث وديع: «في البداية كنا نلاحظ شعور بعضهم بالصدمة. ولكنْ، مع مرور الوقت، تعود الجميع على الأجواء الثقافية الخاصة بمناسباتنا الوطنية».
ويأتي كتّاب وصحافيون لاحتساء القهوة او لتناول الطعام، بينما يطالعون كتباً أو صحفاً. وكانت ممارستهم اليومية هذه، المماثلة لعادات أقرانهم في العالم، ما دفع بـ «فتوش» إلى تأمين الصحف اليومية، ثم مجموعة كتب قيّمة... فنشأت المكتبة، وهي تتوسّع وتتغيّر باستمرار.
واستقطب «فتوش» المغتربين العائدين، أيضاً. ومنهم الشاب نزار وتد، المقيم في لوس أنجليس، وهو من قرية جت في المثلث. جاء يزور أصدقاءه، فأحضروه إلى «فتوش» للسهر، حيث شعر كأنه «عاد إلى البيت». ويقول مقارناً: «أرتاد مطعماً يحمل الاسم نفسه في واشنطن، لكن هذا المطعم يختلف كثيراً عن الأول في نشاطاته الثقافية. وهناك لا يدعوك احد إلى طاولته من دون أن يكون على سابق معرفة بك، ويطلب التحدث إليك... هنا اشعر بالفرح وبعمق الترابط الثقافي بين أبناء شعبي».وينضم صديقه الفرد حداد (موسيقي) إلى حلقة الأصدقاء مقاطعاً: «في «فتوش» تشعر وكأنك تنظر إلى لوحة تصور تراثنا، وتعرّفك على ثقافات شعوب اخرى. وأنا كعازف اشعر بأنه بيتي. وهو الملتقى الذي كنا نبحث عنه طوال سنوات».
وفي بحث أعده يوسف جبارين حول حي الالمانية في مدينة حيفا، تبيّن أن 41.7 في المئة من المواطنين العرب يشعرون بأن الحي يوفر مكاناً للقاء فكري اجتماعي وسياسي مميز. وبحسب معطيات البحث، يشعر نحو 72 في المئة من عرب حيفا بأن الشارع الرئيسي في حي الالمانية زاد من فرص تلاقيهم، بينما قال 64.4 في المئة انه زاد من امكان التلاقي بين مجمل المواطنين العرب.
ويشير الفنان سعيد سلامة إلى الدور الذي اضطلع به مقهى «فتوش» قائلاً: «شعرت منذ البداية بأن هذا المكان سيصبح ملتقى لكل الشبان والصبايا العرب... وحين احضر إلى هنا اشعر بالانتماء، إذ أجد مساراً آخر غير المسار التقليدي للمطاعم. وأنا أتحدث عن تلاقي ثقافات، عن لقاء أصدقاء غابوا لسنوات، عن مكان وُلدت فيه الكثير من الأفكار الفنية والثقافية».
وتثني الشاعرة اسماء عزايزة عليه، مضيفة: «حين كنا نذهب إلى المطاعم في وسط يهودي، كنا نفتقد الانتماء. لكننا هنا نشعر كأننا في البيت، في الفضاء الذي بحثنا عنه طويلاً... يمكنك أن تتناول الطعام في منزلك وتستمتع. وأما هنا فالمتعة مزدوجة في غذاء الجسد والروح... المحمر والتبولة... والشعر والموسيقى. أشعر وكأني اعيش في مدينة خيالية، واحة ثقافية ضائعة، نبحث عنها منذ النكبة... أشعر أن «فتوش» يعوض كثيراً مما افتقدناه».
ويضيف أسامة: «بات المطعم عنواناً لكثيرين، ومكتب بريد نتراسل عبره مع الآخرين». ويتدخلّ وديع مبتسماً: «بل اكثر من ذلك. هنا تعارف شبان وصبايا وتزوجوا. ومن هنا انطلق فنانون مغمورون إلى عالم الفن. وهنا، أيضاً، يحتكّ الرواد اليهود بالثقافة العربية، ويتعرّفون الى إنسانية المواطن العربي التي شوهها إعلامهم. ومن اليهود من كان لديه نظرة سلبية عن العرب والفلسطينيين، هنا تعرف هؤلاء الى الواقع كما هو، واختلطوا بالمشهد الثقافي وتغيرت نظرة كثيرين منهم إلى العربي».