الاثنين، 15 سبتمبر 2008

التفجيرات الانتحارية والعمالة ...وجهان لعملة البطالة الفلسطينية

شفا عمرو (فلسطين المحتلة) – وليد ياسين الحياة - 15/09/08//
على بعد أمتار قليلة من حاجز عسكري أقامه جنود الاحتلال الاسرائيلي بالقرب من بلدة زلفة، على الحدود بين منطقة 48 ومحافظة جنين، شمال الضفة الغربية، تحلق الكثير من الآباء والأمهات الفلسطينيين حول سائق سيارة أجرة وأخذوا يساومونه على كلفة نقلهم من الحاجز إلى مدخل سجن «مجدو العسكري»، حيث يحتجز جنود الاحتلال أولادهم.
في مكان غير بعيد من هذا التزاحم، جلست مسنّة فلسطينية على الأرض، تحتضن رضيعاً. بدت وكأنها غير مبالية بما يحدث من حولها، او انها ليست على عجلة كأولئك المتزاحمين. التفتت إلى صوت شابة خرجت من بين المتزاحمين ونادت عليها: «يلا يا حاجة، تعالي»، واقتربت من المسنّة وتناولت الطفل من حضنها، ثم سارت أمامها باتجاه سيارة الأجرة.
الشابة، والدة الرضيع الذي ترعاه «جدته»، هي زوجة الابن الأصغر لهذه العجوز. اسمه أحمد، شاب، يحمل شهادة الماجستير في الاقتصاد، تخرج قبل عامين ونصف عام في جامعة خليجية، وعاد إلى أسرته في نابلس، على أمل أن يجد عملاً يسترزق منه ويساعد أسرته على مواجهة الجوع الذي فرضه الحصار على الفلسطينيين. لكن أحلامه سرعان ما تبخرت، وفقد الأمل بالحصول على وظيفة في مجتمع يعاني نسبة بطالة عالية، تتفاقم عاماً بعد عام في ضوء سياسة الحصار والتجويع الإسرائيلية وعجز السلطة الفلسطينية عن استيعاب الأكاديميين في مؤسساتها.
قرر أحمد، بحسب ما تروي زوجته «حشر أحلامه داخل كيس محكم الإغلاق»، وانطلق للعمل في أرض عائلته. حرث الأرض وزرعها وكان الموسم الأول وفيراً، فقررت أمه تزويجه من ابنة شقيقتها، التي تخرجت هي أيضاً بشهادة دبلوم في جامعة النجاح واضطرت للتخلي عن أحلامها حين وافقت أسرتها على زواجها من ابن خالتها.
بعد شهر من زفافه، وجد أحمد نفسه يبحث مجدداً في سوق البطالة عن عمل، بعد أن دهمت جرافات الاحتلال ارض عائلته ودمرت مزرعته الصغيرة، وقضت على باب رزقه الوحيد.
لم يتمكن أحمد من إيجاد عمل، وتدهورت أوضاع الأسرة، بخاصة بعد وفاة والده. بدأ الجوع يتسرّب إلى بطون الأسرة، بعد أن بات من الصعب إيجاد كوب من الطحين من أجل خبز رغيف. تسلل اليأس إلى نفس أحمد، وبات عصبياً. لاحظت زوجته الشابة التغيرات التي طرأت على حياته، ولم تجد من سبيل إلاّ اللجوء إلى أسرتها، فمرة تحضر الطعام جاهزاً من هناك، وأخرى تستعين بوالدها لشراء حاجيات منزلها، في محاولة منها للتخفيف من الضغوط على زوجها. وأحمد يشاهد ما يحدث ويتألم بصمت. ومن دون سابق إنذار غاب احمد أسبوعين عن المنزل، ليعود منفرج الأسارير، وجيبه مملوءة ببضع مئات من الدولارات الأميركية.
لم تسأله زوجته من أين؟ وكيف حدث هذا التحول؟ خشية من العواقب. وبعد أقل من أسبوع، ابلغ احمد زوجته أنه سيتوجه إلى مخيم جنين لزيارة زميل له. في تلك الليلة، وحين كان احمد يجلس مع مجموعة من شبان المخيم في باحة بيت صديقه، سمعوا دوي انفجار آتياً من جهة مدخل البيت، وقبل ان يتمكنوا من التحرك، كانت ثلّة من جنود الاحتلال تحاصرهم وتوجه بنادقها إلى صدورهم. اقتيد احمد مع بقية الشبان إلى السجن، وبعد تحقيق وتعذيب داما نحو شهرين في أقبية أجهزة الاستخبارات، وجهت قوات الاحتلال إليه تهمة التخطيط لعمليات فدائية وحكم عليه بالسجن حتى عشر سنوات.
«حين اعتقلوه كنت حاملاً في الأسبوع الأول»، تقول زوجته. «خفت على الجنين، وفي لحظة يأس قررت التخلص منه، لأنني خشيت من الجوع والفضيحة. لكن الله ستر، وأنقذ الجنين فأنجبته، وعمره اليوم 17 شهراً، وأحضرته معي لزيارة والده».
لم تكمل حديثها، إذ نودي على الزائرين للدخول إلى قاعة الانتظار، ودخلت مع الوافدين للزيارة. بعد نحو ساعة خرجت، وأكملت حديثها: «حين قرر احمد العمل في الأرض كان بحاجة إلى مبلغ يساعده على تحضير الأرض وشراء الحبوب، فاستدان مبلغاً من مؤسسة خيرية في المدينة، على أن يعيده بأقساط شهرية. وبالطبع كانت المؤسسة تدير سجلات مالية وكان اسم احمد من بين المسجلين فيها. خلال العدوان الاسرائيلي على جنين عام 2002، دهمت قوات الاحتلال المؤسسة وصادرت ملفاتها، وبدأت حملة اعتقالات واسعة شملت تقريباً كل الشبان الذين وردت أسماؤهم في السجلات، وكان احمد من بينهم. وبعد اعتقال لمدة شهر أطلقوا سراحه، ومنذ تلك اللحظة تغير. كان يغيب ساعات طويلة ولا يرجع إلى المنزل إلا في المساء. لم يعرف احد ما الذي يفكر فيه الشاب الجامعي، ولا ما الذي حدث معه في السجن، ولا أين اختفى حين قال انه سيسافر إلى صديق في رام الله، إذ إنه أخفى أي تفاصيل حتى عن زوجته. ومضت الأيام، وبات احمد يمثل سراً كبيراً بالنسبة الى المرأة التي من المفترض أن تكون كاتمة أسراره. وتوضح: «بعد اعتقاله فقط، فهمت».
في اليوم التالي على اعتقال أحمد، حضر لزيارة أسرته ناشط في إحدى الحركات الأصولية وسلّمها مبلغاً مالياً، مفسراً «إنه دين لأحمد». لكن احمد كان فقيراً، وبالتأكيد لم يملك مثل هذا المبلغ الذي احضره الزائر، وأصرّت زوجته على معرفة مصدر المال، وبعد أيام حضرت إلى بيتها شابة في مثل عمرها، وروت لها ان احمد تجنّد في صفوف هذه «الحركة»، وكان يخطط للقيام بعملية انتحارية داخل إسرائيل.
انكشف السر أمام الزوجة الشابة، وعرفت لماذا كان يغيب ساعات وأياماً من دون ان تعرف ماذا يفعل أو الى أين يذهب. فهمت انه خضع للإغراء المالي كي يعيل أسرته ويمنع سقوطها على مذبح الجوع. وبحسب الزوجة، فإن أحمد لم يكن شخصاً يؤيد قتل النفس، ولم يكن متعصباً دينياً أيضاً، وخلال الفترة الوجيزة من عمرهما المشترك كانت تشاهد البريق في عينيه وهو يحدثها عن أحلامه وعن القصر الذي سيبنيه لها على طرف كرم الزيتون.
وفهمت منه، حين بدأت زيارته في سجنه، انه حاول الهجرة والعودة إلى الخليج للبحث عن عمل، لكن اسمه كان مدوناً على اللائحة السوداء، ومنع من المغادرة. بحث عن عمل في كل ورش البناء ومع الحمالين في السوق، وكان مستعداً لنسيان شهادته والعمل في جمع القمامة، لكنه لم يجد مكاناً يستوعبه.
وفي احد الأيام، جاءه شخص غريب إلى الكرم وأخذ يحدثه عن مدينة يافا، المدينة التي تهجّرت منها أسرة احمد، وعن جمال البحر وبيت عائلته المطل على مسجد «حسن بك»، قبل أن يتحول وعائلته لاجئين على رقعة أخرى من أرض فلسطين، وشدّه الحديث إلى ان سمع ذلك الغريب يسأله: «لماذا لا تعمل معنا وتعيل أسرتك بكرامة؟».
أحمد الذي قارب حالاً من اليأس، واعتقد ان «الغريب» يعرض عليه عملاً، ولم يتردد للحظة في الموافقة. وبعد أيام، فهم نوعية العمل المقترح، لكنه لم يتراجع، بل وجد في نفسه التصميم القوي على المضي قدماً، وهو يرى بأم عينيه ويعيش يومياً الذل الذي يفرضه الاحتلال على شعبه.
وانخرط احمد في العمل الفدائي، لكن الأمر لم يطل، فبعد شهر من بدء التدريبات، جاءت تلك المداهمة الليلية لبيت صديقه في المخيم، واعتقالهم. ولم يعرف احمد إلا بعد ثلاثة أشهر من الاعتقال ان احد الشبان الذين سهروا معه في تلك الليلة، كان عميلاً. ذلك الشاب، أيضاً، كان عاطلاً من العمل، وضحية أخرى من ضحايا البطالة المتفشية في الشارع الفلسطيني، وبعد تسلله إلى داخل الخط الأخضر للبحث عن عمل، اعتُقل، وعُذِّب، وأُجبر على تصوير مشاهد مخلّة بالآداب، وهدّدوه بنشر الصور إذا لم يتعامل معهم، فسقط!

ليست هناك تعليقات: